هل السببية استقرائية أم استنباطية

أولاً: لماذا السؤال عن السببية؟ :-


لأن السببية هي أساس نظري، حيث تنتمي السببية إلى مجموعة المسلمات الفاعلة (Functional Axioms)،و تتميز السببية ببساطتها الشديدة وبِعُلُوِ مستواها التجريدي، حيث يمكنها أن تأخذ مُدخَلين اثنين على الأقل (السبب والمُسَبَّب) وبالمقابل يمكنها إنتاج مُخرَج واحد على الأقل (النتيجة).
وهذه النتيجة تكون كالتالي:
(1) في حالة توافق السبب مع المسبب تكون النتيجة مناظرة للنتيجة الواقعية.
(2) في حالة عدم توافق السبب مع المُسَبَّب فإنه لا تتكون نتيجة في الواقع عنهم معاً، أي لا تعمل السببية.

______________


ثانياً: إثبات أن السببية استنباطية:-

يأتي الإثبات من العبارة القائلة ((كل ممكن الوجود له سبب))، حيث
ممكن الوجود: ((هو الشئ الذي يصح وجوده ويصح عدم وجوده، وهو الشيء الذي يتساوى فيه الوجود والعدم))، وسنرمز له بالرمز x.
عملية الإيجاد لذلك الشيء المدعو "ممكن الوجود" لن تخرج عن إطار ثلاث احتمالات وهي كالتالي:-

(1) حدوث عملية الإيجاد لـx بغير اعتبار أي شيء:
في حالة عدم وجود x لا يمكن النظر لأي شيء ثم بناء حكم (judgment)، أما في حالة وجود x فإنه واقعياً لم يتساوَ وجوده مع عدمه، وبالتالي فهناك تناقض مع التعريف.
التناقض هو أن المقدمة تقول بتساوي الوجود والعدم والواقع يحتم عدم تساويهما.

(2) حدوث عملية الإيجاد لـx باعتبار x بذاته:
في حالة وجود x فإنه قد ترجح فيه الوجود على العدم من غير مرجح خارج عنه، وبالتالي فهناك تناقض مع التعريف.
التناقض هو أن المقدمة تقول بتساوي الوجود مع العدم والواقع يحتم عدم تساويهما.

(3) حدوث عملية الإيجاد لـx باعتبار شيء آخر خارج عن x:
في حالة عدم وجود x فإن ذلك الشيء الآخر موجود، وفي حالة وجود x فإن ذلك الشيء الآخر موجودٌ أيضاً، وبالتالي لا يوجد تناقض.
والقول بأن شيئاً آخر قد أدى بشكلٍ حتمي وحصري إلى x هو السببية.

______________

ثالثاً: إثبات أن السببية استقرائية:-

أن تعريف "ممكن الوجود" السابق هو تعريف خاطئ، فالأولى أن يكون: ((هو ذلك الشيء الذي يحمل (أو تُنسَبُ إليه) خاصية متغيرة (attribute) نظرية تجريدية من الدرجة الأولى على الأقل (first order of abstraction)، هذه الخاصية هي placeholder لقيمةٍ ما، و يمكن لها أن تمتلئ بقيمة واحدة فقط من اثنين و هما {موجود، غير موجود})) ومن هذا التعريف يمكننا أن نقول بشكلٍ آخر أن ماهية هذا الشيء الذي ندعوه "ممكن الوجود" هي ماهية نظرية حتى ولو كانت تشير إلى شيء واقعي.
إشارة الشيء النظري إلى الشيء الواقعي هو ما نسميه بالتصور العقلي، والتصور المثالي (ideal) يعني التعامل مع ذلك التصور العقلي مباشرة على أنه يطابق الواقع وبامتياز، ووجهة النظر الاستنباطية تحمل تصوراً مثالياً.
وطبقاً لتعريف "ممكن الوجود" طبقاً للتوجه الاستقرائي، فإنه يمكننا قول التالي ((صحة الوجود تعني عدم صحة عدم الوجود، والعكس صحيح))، وبالمناسبة، العكس هو جملة دائرية بامتياز ((صحة عدم الوجود تعني عدم صحة الوجود)) --> ((الشيء هو ذاته)).
ولكن لنضع نفس الثلاث احتمالات السابقة وفقاً لذلك التعريف.

(1) حدوث عملية الإيجاد لـx بغير اعتبار أي شيء:
في حالة وجود x  فإن خاصية وجوده تحمل القيمة "موجود" وفقط، والعكس صحيح.
الواقع يقول أنه لم يتم رصد أي عملية تقع تحت إطار ذلك الاحتمال في الإطار الماكروي، إذن ذلك الاحتمال مستبعد عملياً في الوقت الحالي ماكروياً.
بالرغم من ذلك، لا يوجد تناقض بين التعريف والنتيجة.

(2) حدوث عملية الإيجاد لـx باعتبار x بذاته:
في حالة وجود x فإن قيمة الخاصية هي "موجود" وفقط، والعكس صحيح.

كما ذكرنا أيضا في الحالة الأولى فإن الواقع يقول أيضا بأنه لم يتم رصد أي عملية تقع تحت إطار ذلك الاحتمال في الإطار الماكروي، إذن ذلك الاحتمال مستبعد في الوقت الحالي ماكروياً.

بالرغم من ذلك، لا يوجد تناقض بين التعريف والنتيجة.

(3) حدوث عملية الإيجاد لـx باعتبار شيء آخر خارج عن x:
في حالة وجود x  فإن خاصية وجوده تحمل القيمة "موجود" وفقط، والعكس صحيح.
الواقع دوماً ما يحقق لنا ذلك على المستوى الماكروي، إذاً ذلك الاحتمال يتم الأخذ به عملياً في الوقت الحالي استقراءً للمشاهدات والتجارب السابقة المؤيدة لذلك على المستوى الماكروي.

______________

رابعاً: الملخص الأول:-

(1) تتفق كلٌ من وجهتي النظر الاستقرائية والاستنباطية في النتيجة على المستوى الماكروي.
(2) التعريف الاستقرائي يمنع التناقض في الاحتمالين الأول والثاني على المستوى الماكروي برغم عدم تحققهما فيه حتى اللحظة، بينما التعريف الاستنباطي يؤدي إلى ظهور التناقض في الاحتمالين الأول والثاني على جميع المستويات الماكروية والكَمِّية.
(3) برغم أن التعريف الاستقرائي يمنع التناقض في الاحتمالين الأول والثاني على المستوى الماكروي، إلا أن قيمة تَحَقُّق كلا الاحتمالين حالياً في المستوى الماكروي تساوي الصفر كنتيجة لاستقراء عدم وجود أي مشاهدات عليهما في ذلك المستوى.

_____________

خامساً: الاستقراء الاحتمالي:-

ويأتي ذلكَ إذا ما أخذنا نفس التعريف السابق لممكن الوجود طبقاً لوجهة النظر الاستقرائية المذكورة سابقاً ولكن بدلا من أن نجعل مجال القيم للـ attribute هو {موجود، غير موجود} فإننا نجعل مجال القيم بهذا الشكل
{(موجود، a)، (غير موجود، b)} حيث ((a+b=100%)) و ((100%≥a)) و ((%100≥b)) و حيث a و b هي مقادير احتمالية تَحَقُّق القيم {موجود، غير موجود}، ومع إزالة الجزء من التعريف الذي يقضي بضرورة أن يحمل الـ attibute قيمة واحدة فقط من القيم {موجود، غير موجود}.
يمكننا القول بالأخير بأن الاستقراء الاحتمالي يؤدي إلى الإثبات الاستنباطي في حال كانت ((%50=a=b)) ويؤدي إلى الإثبات الاستقرائي حال كانت ((%100=a)) أو ((%100=b)).

______________

شكر وتقدير وتوضيح:-

جزيل الشكر لصاحب الطرح الاستنباطي في ذلك الفيديو الذي عنوانه بيان المغالطات المنطقية عند ملاحدة العرب: أحمد سامي أنموذجاً

والذي تمكن فيه صاحبه من عرضه بشكلٍ مفصل وواضح في نفس الوقت، وبما فتح لي الباب كي أتمكن من الإضافة عليه.
أيضاً وجب التوضيح إلى أن الفارق بين الاستنباط والاستقراء هو في اتجاه حركة الاستنتاج، حيث يعتمد الاستنباط على التحرك من أعلى إلى أسفل، أي من القواعد والمسلمات العقلية بنسبة 100% إلى النتائج.
بينما يعتمد الاستقراء على التحرك من أسفل إلى أعلى، أي من مجموع المشاهدات والخبرات إلى النتائج التي تكون في صورة قواعد ومسلمات عقلية ومن ثَمَّ إلى باقي خطوات الاستنتاج استنباطياً بعد ذلك.
يجب أيضاً التوضيح إلى أن كلاً من الاستقراء والاستنباط هي من الـ categories المتاح التعامل معها واستخدامها حين الحاجة والضرورة، ولا يجب تفضيل أيهما إلا طبقاً لظروف واقتصاديات الحركة للمسألة محل النظر.
المقصود باقتصاديات الحركة هو درجة التعقيد المتاح التعامل معها، ونعني بدرجة التعقيد والتركيب هو المقدار المسموح للبيانات كَمَّاً ووقتاً لمعالجتها كي يمكن تتبُّع خطوط تحرك الاستدلالات، وفيما إذا كان من الممكن تقليل الكم والوقت (أو طول خطوط الاستدلال) دون الإخلال بدرجة دقة المعطيات وكفاءة نظام الاستدلال تناسباً مع حجم المسألة.

Comments

Popular posts from this blog

Scatter Plot on the meaning of TRUTH

الإيمان والاعتقاد والاقتناع واللعب